الفساد يلتهم أقوات اللاجئين.. هل تحوّلت المساعدات الإنسانية إلى سوق سوداء؟

الفساد يلتهم أقوات اللاجئين.. هل تحوّلت المساعدات الإنسانية إلى سوق سوداء؟

في زوايا العالم المنسية، حيث يعلو هدير المدافع على صرخات الأطفال، تبرز المنظمات الإنسانية كأمل أخير في لحظات السقوط الكبرى. تُستقبل فرقها على الأطراف المحترقة من الجبهات كفرسان بوجوه مغبرة وقلوب مغمورة بالواجب، لكنها في الوقت ذاته، تُتهم في أروقة بيروقراطية قاتلة بأنها تدار كأنها مؤسسات رأسمالية مموَّهة بقناع التعاطف. 

وبين نبل الرسالة وانحراف الممارسة، تقف هذه المنظمات على الحد الفاصل بين البطولة والخطيئة، بين العمل النقي والتشويه السياسي.

وكشفت منظمة “أطباء بلا حدود” أنها أنقذت في عام 2023 أكثر من 1.2 مليون شخص من الموت المحقق في اليمن وسوريا وجنوب السودان، وفقًا لتقريرها السنوي المنشور على موقعها الرسمي عملياتها نُفذت في ظروف شبه مستحيلة، وأحيانًا تحت القصف والاختطاف، حيث يواصل العاملون في الميدان مسيرتهم بلا سلاح سوى الضمائر. هؤلاء الأبطال الصامتون ينقذون أرواحاً من تحت الركام، ويخيطون جراحًا ما تزال تنزف ظلماً.

تقارير استقصائية قاتمة كشفت عن تورط موظفين في منظمات أخرى في قضايا اختلاس وسوء توزيع للمساعدات، كما أورد تحقيق لوكالة "رويترز" في أغسطس 2022 حول مساعدات برنامج الأغذية العالمي في إثيوبيا، هناك من يرى في العمل الإنساني فرصة تجارية أكثر من كونه مسؤولية أخلاقية، فصناديق المساعدات تُدار أحياناً كخزائن خاصة تحت غطاء إنساني، وتحكمها حسابات سياسية.

معايير متشابكة

وتخضع المنظمات العاملة في مناطق النزاع لمعايير متشابكة، تتوزع بين القوانين الدولية مثل اتفاقيات جنيف، والمعايير الأخلاقية التي تفرضها المجتمعات المستضيفة، والضغوط غير المعلنة من الدول المانحة التمويل، هنا، هو سيف ذو حدين: إما أن يكون عونًا نزيهًا، أو قيدًا ناعمًا يُفرض على جدول الأولويات. 

وفي عام 2021، تلقت 60% من المنظمات الكبرى تمويلاً مباشراً من حكومات، وفقاً لتقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) وتقول سارا رينولدز، الخبيرة في العمل الإنساني، إن "المانحين يشترطون أحياناً تنفيذ مشاريع ضمن أولويات سياسية لا إنسانية، ما يقيد حركة هذه المنظمات ويشوه أهدافها"، فيتحوّل القرار الإغاثي من نداء استغاثة إلى مفاوضة بيروقراطية على الورق.

وعلى الأرض، ثمة معاناة ميدانية حقيقية؛ فموظفو الإغاثة يواجهون تهديدات جسيمة: الخطف، القتل، الابتزاز، ناهيك عن صعوبة التنقل في مناطق سيطرة الميليشيات المسلحة، ففي تقرير لمركز "ACAPS" لعام 2023، اعتُبر الوصول الإنساني في اليمن وسوريا وأفغانستان من بين الأصعب عالمياً.

وعن حجم المساعدات التي تصل فعلياً إلى اللاجئ، فإن الرقم صادم ومخيب للآمال، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في ديسمبر 2023، فإن ما لا يزيد على 30% من إجمالي المساعدات المعلنة يصل مباشرة إلى المستفيدين، والباقي يتآكل في تكاليف إدارية، ونقل، ورواتب موظفين، وأحياناً بسبب الفساد المحلي أو الدولي. ففي لبنان، مثلاً، كشفت لجنة برلمانية في 2022 أن ملايين الدولارات من المساعدات الدولية أُهدرت بسبب سوء الإدارة وتضارب المصالح.

وتتحول بعض المنظمات من فاعل إنساني إلى طرف في النزاع، بشكل مباشر أو غير مباشر، في سوريا، وُجهت اتهامات لمنظمات بتقديم دعم لوجستي لأطراف مسلحة، عبر تمرير معدات طبية لمستشفيات ميدانية خاضعة لسيطرة فصائل مسلحة، كما أوردت مجلة "فورين بوليسي" في تقرير نُشر في مارس 2023، ولا تزال التحقيقات قائمة حول شبكات تمويل مزعومة تمر عبر منظمات إنسانية تُستخدم كواجهة لنقل الأموال. 

هذا التداخل الخطر بين العمل الإنساني والسياسي أو العسكري، يضع علامات استفهام على مصداقية بعض المنظمات، ويفرض ضرورة المساءلة الصارمة.

ومع ذلك، فإن بعض المبادرات المضيئة تثبت أن التغيير ممكن، ففي كينيا، أطلقت منظمة "REFUNITE" مشروعاً لربط اللاجئين بأسرهم المفقودة عبر تطبيق رقمي مجاني، مما أسفر عن لمّ شمل أكثر من 60 ألف شخص منذ 2015. كما أن منظمة "نرويجية للاجئين" نفذت برامج تدريب مهني للاجئين في أوغندا، مكنت الآلاف من بدء مشاريع صغيرة. 

وفي بنغلاديش، دعمت منظمة "BRAC" التعليم في مخيمات الروهينغا، حيث التحق أكثر من 100 ألف طفل بمدارس مؤقتة مزودة بمناهج محلية. إن مثل هذه النماذج، رغم تواضعها، تشير إلى إمكانية تحقيق الأثر المستدام إذا ما اقترن الإغاثي بالتنموي، والطارئ بالبناء.

تسييس المساعدات الإنسانية

قال رئيس مركز أبعاد للدراسات والبحوث، عبد السلام محمد، إن تجربة المنظمات الدولية العاملة في اليمن، كواحدة من أبرز مناطق النزاع في العالم، كشفت عن انحرافات جسيمة في الأداء الإنساني، أدت إلى إضعاف الأثر الإغاثي الحقيقي، وأثارت شكوكًا متزايدة حول نزاهة هذا العمل ومصداقيته.

 وأكد أن أغلب هذه المنظمات، للأسف، تورطت في قضيتين خطيرتين: الفساد، وتمويل أطراف الصراع بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

وأوضح محمد، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن بعض المنظمات كانت تضطر، أو تختار طواعية، دفع ما يشبه الإتاوات أو النسب المفروضة للجهات المسلحة المسيطرة على الأرض، خصوصًا في مناطق النزاع الساخنة، مقابل السماح لها بتنفيذ أنشطتها، وهو ما يعد خرقًا صارخًا لمبدأ الحياد الإنساني، ويحوّل هذه المساعدات إلى وسيلة غير مباشرة لدعم أدوات الحرب لا التخفيف من وطأتها.

وأضاف أن داخل هذه المنظمات نفسها استنزاف كبير للموارد تحت غطاء النفقات التشغيلية، حيث تُهدر مبالغ طائلة على الزيارات الشكلية، وتنظيم الفعاليات، والرواتب الباهظة، خصوصًا لأولئك المتعاقدين الدوليين، وما يتبقى من المخصصات المالية بعد هذه التكاليف لا يصل بالكامل إلى المستحقين، بل يُحوّل جزء كبير منه إلى منظمات محلية وسيطة، ما يفتح الباب أمام ممارسات غير نزيهة في توزيع المساعدات.

وأشار إلى أن بعض أطراف الحرب تستغل هذه المرحلة لتوجيه المساعدات إلى أسر ينتمي أبناؤها إلى صفوف المقاتلين، باعتبارهم "أولوية في الاستحقاق"، فيما تُستبعد آلاف الأسر الفقيرة التي لا تمتلك أي ارتباط بأي طرف مسلح، وهو ما يمثل خرقًا واضحًا لمبدأ العدالة الإنسانية ويُكرّس لواقع التمييز القائم على الانتماء لا الحاجة.

واختتم تصريحه بالتأكيد على أن حجم التجاوزات والتلاعب الذي شهدته الساحة اليمنية يرقى إلى ما يستحق تحقيقًا دوليًا موسعًا، يشمل فساد المنظمات الدولية، وتورط المنظمات المحلية، وتحويل الموارد الإنسانية إلى وقود إضافي لإطالة أمد الحرب، بدلًا من أن تكون جسراً للسلام والخلاص من المعاناة.

غياب الرقابة واستغلال التمويل

من جانبه، قال ذياب الدباء، المدير التنفيذي لمركز البحر الأحمر للدراسات السياسية والأمنية، إن واقع أداء المنظمات الإنسانية في مناطق النزاع يشوبه الكثير من الغموض والقصور، محذرًا من غياب المعايير الحقيقية والرقابة الفاعلة التي من المفترض أن تحكم عمل تلك المنظمات، لا سيما في ظل اشتداد الأزمات وتفاقم معاناة المدنيين. 

وأوضح في تصريح لـ"جسور بوست"، أن هناك حاجة ماسة إلى مصفوفة معايير واضحة وصارمة تُلزم جميع المنظمات الإنسانية باحترامها وتطبيقها، وأن تكون هذه المعايير خاضعة لإشراف السلطات المحلية والحكومات الوطنية، بما يضمن احترام السيادة من جهة، وفعالية الأداء الإنساني من جهة أخرى. 

وأضاف: "للأسف، فإن الواقع يشير إلى أن أغلب هذه المنظمات تعمل خارج إطار الرقابة والتقييم، وغالباً ما تمارس نشاطها بعيدًا عن أي ضوابط أو شفافية تُذكر".

وأشار إلى أن ما هو قائم لا يتعدى بعض المبادرات الفردية أو المجتمعية التي تفتقر إلى الدعم المؤسسي. 

وقال: "هنالك مبادرات نزيهة وشجاعة ظهرت خلال السنوات الأخيرة، مثل حملة 'وين الفلوس' و'لن نصمت'، لكنها تظل جهودًا فردية معزولة، لم تجد الدعم أو التبني من قبل المؤسسات الرقابية الرسمية أو الإعلام المحلي أو المجتمع المدني بشكل عام، مما جعل أثرها محدودًا رغم أهميتها الرمزية والأخلاقية".

وفي ما يتعلق بالاتهامات بشأن تورط بعض المنظمات في تمويل أو تسليح أطراف النزاع، نفى الدباء معرفته بأي حالات مباشرة لتورط المنظمات الإنسانية في عمليات تسليح. لكنه أكد، في الوقت ذاته، وجود مؤشرات واضحة على تورط عدد من المنظمات الدولية والمحلية في دعم جماعة الحوثي ماليًا، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. 

وأضاف: "هذه التمويلات، وإن كانت في ظاهرها إنسانية، إلا أنها استُغلت لتعزيز القدرات العسكرية والتسليحية للجماعة، مما يُفرغ العمل الإنساني من مضمونه ويحوّله إلى أداة دعم لطرف مسلح".

وفي تقييمه للأثر الحقيقي للمنظمات الإنسانية في تحسين مصير اللاجئين على المدى الطويل، أوضح الدباء، أن الأثر لا يزال محدودًا وموسميًا. 

وأشار إلى أن أغلب المشاريع تركز على الإغاثة الطارئة دون أي رؤية استراتيجية لتحقيق تنمية مستدامة أو إعادة دمج اللاجئين اقتصاديًا واجتماعيًا. وختم تصريحه بالقول: "ما لم تتحول التدخلات الإنسانية من مجرد استجابة طارئة إلى عملية تنموية شاملة تراعي الكرامة والتمكين والاستدامة، فإن هذه المنظمات ستظل تدور في حلقة مفرغة، تعالج الجراح دون أن توقف النزيف".

تقييد العمل الإنساني

أكد الإعلامي اليمني عبد الله المنيفي أن الواقع الذي تعيشه المنظمات الإنسانية العاملة في اليمن، لا سيما في مناطق النزاع، يكشف عن ازدواجية صارخة في المعايير والآليات التي تحكم عمل هذه الكيانات الدولية، إذ تختلف ظروف عملها جذرياً بين المناطق الخاضعة للحكومة الشرعية وتلك التي تسيطر عليها ميليشيا الحوثي.. ففي المناطق الواقعة تحت سلطة الحكومة الشرعية، تُمنح المنظمات قدراً واسعاً من الحرية في الحركة والتنفيذ وفق المعايير المتعارف عليها دولياً.

ووصف المنيفي، في تصريحات لـ"جسور بوست" الوضع هناك بأنه أشبه بـ"مصيدة بيروقراطية وأمنية" تفرضها الجماعة على كل منظمة إنسانية، حيث يتم إخضاع هذه الجهات لمعايير مصممة خصيصاً لتخدم أجندات ميليشيا الحوثي الأمنية والاستخباراتية. 

وأضاف أن الجماعة مارست لأعوام طويلة عملية تكميم ممنهجة لأي تقارير أو شكاوى من المنظمات، قبل أن تنفجر حالات التجاذب مؤخراً، ويظهر للعلن كيف أصبحت هذه المنظمات تعمل في إطار ضيق يحدده الحوثيون بدقة متناهية.

وعن الرقابة على أداء هذه المنظمات، أشار المنيفي إلى أن الحوثيين أنشأوا كياناً شكلياً تحت مسمى "مجلس تنسيق الشؤون الإنسانية"، هدفه في الظاهر تنسيق العمل الإنساني، لكن وظيفته الحقيقية هي بسط السيطرة على كل ما يتعلق بعمليات الإغاثة والمساعدات، وتحويلها إلى ذراع خفي لخدمة سياسات الميليشيا، وفي المقابل، بادرت الحكومة الشرعية إلى تأسيس "اللجنة العليا للإغاثة"، ورغم ما تعانيه من قصور، فإنها سعت إلى توجيه العمل الإنساني بما يتفق مع المبادئ الدولية.

وبشأن وصول المساعدات إلى مستحقيها، أوضح المنيفي أنه من الصعب تحديد النسبة بدقة، لكن تقارير وشهادات كثيرة تشير إلى حجم كبير من الفساد والتواطؤ، لا سيما بين بعض ممثلي المنظمات والحوثيين، حيث تم توثيق حالات جرى فيها تحويل المعونات إلى جبهات القتال أو استخدامها لصالح عناصر الحوثي على حساب الآلاف من المحتاجين، كما أُسقطت أسماء عشرات الآلاف من قوائم المساعدات الأممية في مناطق الحكومة الشرعية، في حين تُتهم بعض المنظمات الدولية بإنفاق ما يزيد عن ثلث موازناتها التشغيلية على النفقات الإدارية، في مخالفة صريحة لأهداف العمل الإنساني.

وشدد المنيفي على أن بعض المنظمات، وإن لم تتورط بشكل مباشر، فقد كانت شريكاً غير مباشر في دعم آلة الحرب الحوثية، من خلال تقديم أموال أو معدات تحت ذرائع "نزع الألغام"، بينما الحوثي هو الطرف الوحيد الذي يستخدمها بكثافة، واستشهد بتقدير سابق لمنظمة الغذاء العالمية في عام 2018، حين احتسبت تكلفة طبق فول في اليمن بـ62 دولاراً، ما اعتبره مثالاً صارخاً على العبث والفجوة بين الواقع والتقارير الأممية.

واختتم بقوله، إن هذه المنظمات، رغم دورها في التخفيف من معاناة اللاجئين، فإن تأثيرها الحقيقي يظل محدوداً، وإنه لولا سخاء الجهات المانحة ودعمها المستمر، لما استطاع كثير من المحتاجين الصمود، مؤكداً أن الوقت قد حان لإعادة النظر في آليات الرقابة وتوجيه الدعم، بما يضمن ألا يُستخدم المال الإنساني كأداة في أيدي أمراء الحرب.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية